من الدلالات إلى الإشكالية:
يدل لفظ النظرية على رأي أو حكم يتم التعبير عنه بالكلام، و بهذا يتم وضع النظرية في مقابل الفعل أو العمل لدى عامة الناس. إنهم ينظرون إليها من الزاوية النفعية، فكلما ارتبطت النظرية بالممارسة كانت أجدى نفعا و أكثر فائدة و أهمية.
فالنظرية في التمثل العام تكتسي طابعا نفعيا، في حين أن الفلسفة تعتبرها مجردة من المنفعة منزهة عن الغاية. لكن لفظ النظرية في اللغة العربية مشتق من فعل النظر بالعين المجردة. و في الفرنسية ترجع في أصلها إلى النظر و الملاحظة و التأمل. و إذا عدنا إلى المعاجم المختصة "فهي مجموعة من الأفكار و المفاهيم المنظمة قليلا أو كثيرا و المطبقة على ميدان مخصوص أو محدد".
إن النظرية في آخر المطاف عبارة عن "جهاز متمـاسك من المسلمـات و المفـاهيم و القوانين و التوجيهات العامة تستعمل لتحليل أو تفسير أو وصف جوانب معينة من الواقع أو ما قد يحدث من ظواهر و وقائع (التنبؤ)".
من خلال ما سبق يمكن القول إن النظرية تتقابل مع الممارسة و مع المعرفة اليقينية، لأنها رأي لعالم أو فيلسوف حول قضية متنازع بشأنها. كما تتقابل مع التفاصيل و الجزئيات العلمية لأنها تركيب ينطبق على مجموعة كبيرة من الوقائع.
من هذه التقابلات التي يتضمنها المفهوم الفلسفي للنظرية يمكن طرح التساؤلات التالية: هل تنفصل النظرية عن الممارسة بصورة طبيعية أم بكيفية مصطنعة ؟ ما وظائف النظرية ؟ من أين تستمد النظرية مبادئها ؟ هل تستمدها من الواقع أم من العقل أم من التجربة ؟ ما علاقة النظرية بالواقع ؟هل هي مجرد إنشاء عقلي حر ؟ أم أنها مطابقة للواقع ؟
رجوع. النظرية و الممارسة: إن ارتباط النظرية بالفكر يفترض أنها ترتبط بالممارسة. ذلك أن الإنسان كائن مفكر عامل، و على هذا الأساس يبدو أن النظرية لا تنفصل في الواقع عن الممارسة العملية، فمهما كان العمل بسيطا أو معقدا فلا بد أنه يمر على الأقل عبر خطاطة ذهنية و من ثم يمكن القول إن النظرية تشكل جزءا من الممارسة العملية و عنصرا مكملا لها، و هذا ما بينه عامل النفس جان بياجي: إن عملية المعرفة للواقع لا يتم إلا من خلال إدماجه في بنيات ذهنية سابقة أي أن المعرفة النظرية تنشأ بواسطة الممارسة العملية، فنحن لا ندرك الجديد إلا من خلال استعادة "معارفنا القديمة". و لكن لماذا تقدم النظرية في الفلسفة، و في المعرفة العلمية عموما منفصلة عن الممارسة العملية و عن المتفعة و مطالبها ؟.
لا بد و أن هناك شيئا ما في الممارسة العملية جعل العلم و الفلسفة و التفكير النظري المتخصص ينظرون إلى الممارسة أو التجربة بمعناها العادي نظرة تحقيرية. و لهذا يميز باشلار (كاستون) في الممارسة بين مستويين:
- مستوى النظرية المرتبطة بالممارسة بمعناها العادي و التي ترتبط بالحياة اليومية من أجل تلبية الحاجات و من ثم فهي ترتبط بالمنفعة و هي كافية للحياة و مطالبها.
- مستوى النظرية العقلية الخالصة التي ينتجها الفكر العلمي في استقلال عن المنفعة المباشرة، انطلاقا من عمليات عقلية استدلالية الشيء الذي يرشحها إلى تجاوز عيوب المعرفة و الممارسة بمعناها العادي.
كيف تبنى النظرية العقلية الخالصة و مم يتم بناؤها . و ما هي وظائفها؟ .
نجد لدى فولكييه "
Folquier " تعريفا للنظرية يضيف إليه بعض التفاصيل المفيدة « النظرية بناء عقلي يتم بـواسطة ربـط عدد من القـوانين بمبدأ يمكـن أن يستنتـج منه بدقة و صرامة ». و من هنا فالنظرية ليست مجرد أفكار عامة مبهمة و غامضة بل إنها تتألف من قوانين و مبادئ تقوم بربطها على نحو استنتاجي. و إذا أضفنا إلى ذلك كونها تهدف إلى التفسير أو الوصف أو التنبؤ تبين لنا مكونات النظرية و الوظائف التي تقوم بها. و لهذا لا بد من الوقوف على المفاهيم التي تنبني عليها النظرية.
هناك مفهوم القانون. و إذا كان هذا الأخير تتعدد دلالاته من مجال إلى آخر فإنه في المجال العلمي يدل على "علاقة ثابتة بين الظواهر الملاحظة" و لكن كل الدلالات ترتبط بمفهوم المبدأ الذي يحيل إلى السبب أو العلة و لذلك يختلف مفهوم القانون عن المبدأ في المجال العلمي. لقد كان (أوغيست كونط) يدرك الطابع الميتافيزيقي لمفهوم السبب و لهذا استبدله بمفهوم آخر هو الوصف، أي الووقوف عند ملاحظة الظواهر دون البحث عن عللها الخفية و الاكتفاء بربط العلاقة فيما بينها.
فالقانون العلمي يتميز بالخصائص التالية:
- الكلية (صالح لكل زمان و مكان).
- الجواز (مقابل القانون المنطقي الضروري).
- و القابلة للإثبات عن طريق التجربة و إمكانية التعبير الكمي الرياضي.
فما هي إذن وظائف النظرية ؟.
حينما تقتصر النظرية على تركيب مجموعة من القوانين تكون وضعية (جدول ماندلييف الذي يصف فيه مكونات الأجسام (مثل الماء
H 2O ) و تكون ذات طابع تفسيري حينما تقوم بتحليل الظواهر و ربط العلاقات فيما بينها على فواستتاجي. كما تتخذ طابعا تنبئيا حينما تمكن من التنبؤ بما قد يحدث من ظواهر. إن تعدد المجالات العلمية و اختلاف العلوم موضوعا و منهجا يجعل هذا التصنيف للنظريات تبعا لوظائفها نسبيا. و لكن النظرية تبقى مع ذلك محاولة لتكوين صورة أو نموذج عقلي عن الواقع. فما علاقة النظرية بهذا الواقع ؟.
من المنطقي أن ترتبط كل نظرية بالواقع الذي تتولى وصفه أو تفسيره مادامت تقوم في بنائها على ربط هذا الواقع بالقوانين المطابقة له. و هذا أمر بديهي بالنسبة للعلوم التجريبية ألا و هو ارتباط النظرية بالتجربة، فلا يمكن تصور دراسة الواقع دون الارتباط به عن طريق المنهج التجريبي (الملاحظة – الفرضية – التجربة – صياغة القانون).
و على هذا الأساس تلعب التجربة دورين رئيسيين: فهي من جهة تشكل نقطة انطلاق النظرية و في نفس الوقت نقطة الوصول بالنسبة إليها، لأنها في آخر المطاف تمكن من الحكم على صحتها أو كذبها أو صلاحيتها. لكن الطابع التركيبي للنظرية يجعل من الصعب التحقق من صدقها أو كذبها. لأننا لا نعلم أي جانب تتبه التجربة أو تكذبه و لهذا فصلاحية نظرية ما ليس هو مطابقتها للتجربة بل قابلتها من حيث المبدأ للتكذيب أو التزييف، بمعنى البحث عن وقائع تكذبها فعلا. لكن التطورات العلمية في مجال الفيزياء الذرية جعلت مفهوم الواقع العادي المباشر يفقد معناه خصوصا و أن العالم يتعامل مع الجزئيات الدقيقة.
إن الواقع في مفهومه العلمي المعاصر هو عبارة عن شبكة من العلاقات التي يتم التعبير عنها من خلال المعادلات و الدوال الرياضية، و لهذا صارت النظريات العلمية تتوالد الشيء الذي يسمح للعقل البشري بإجداع مجموعة من العوالم. و هذا ما يجعل الواقع الفعلي يظل المحك و المرجع الأساسي للبث في صلاحيات النظرية العلمية التي يبدو أن بعضها يفنى بنفس السرعة التي تولد بها